سبع ليالٍ من البكاء
كانت السماء رمادية كالرماد، والريح تعصف كأنها تريد اقتلاع الأرواح من أجسادها. ليلى سارت في الطرقات الضيقة بثوبها الرث، تحمل طفلها الرضيع الذي التصق بصدرها بحثًا عن دفء مفقود. خطواتها كانت ثقيلة، وكأنها تجر خلفها ماضياً قاسياً وحاضراً أكثر إيلاماً. في كل مرة تقترب من أحد البيوت، كانت تُجابه بوجوه باردة، أبواب تُغلق في وجهها، وأصوات هامسة تلعن فقرها وكأنها اختارته بملء إرادتها.
عند باب الخياطة فاطمة، طرقت مرتين وانتظرت. فتحت المرأة الباب نصف فتحة، ورمقتها بنظرة مليئة بالشفقة المصطنعة. "ما بكِ يا ليلى؟" سألتها دون أن تحاول حتى إخفاء انزعاجها. نظرت ليلى إلى الأرض وكأنها تخجل من كلماتها قبل أن تنطق بها. "طفلي جائع، لم أتناول شيئًا منذ يومين، هل لديكِ قطعة خبز؟" نظرت فاطمة إلى الداخل، حيث الطاولة ممتلئة بالطعام الساخن، ثم عادت بنظرها إلى ليلى وقالت بصوت جاف: "والله لو كنت أملك شيئًا لما بخلت عليكِ، لكن الأوضاع صعبة على الجميع." وأغلقت الباب.
لم تتفاجأ، ولم تبكِ. فقدت ليلى القدرة على البكاء منذ زمن. احتضنت صغيرها أكثر، وواصلت سيرها نحو بيت التاجر يوسف. وقفت أمام دكانه تنتظر أن ينظر إليها، لكنه تجاهل وجودها تمامًا. بعد دقائق طويلة تجرأت وقالت بصوت خافت: "يوسف، أيمكنك إعطائي شيئًا لطفلي؟ أي شيء؟ سأعيده لك حين أتمكن من ذلك." لم ينظر إليها مباشرة، لكنه قال بصوت هادئ كمن يتحدث إلى الهواء: "إن بدأتُ بإعطاء واحدة، ستأتي أخرى، ثم أخرى، وسينتهي بي الأمر مُفلسًا. لا تطلبي مني هذا، أنا لديّ عائلة يجب أن أطعمها." ثم أغلق النافذة الصغيرة أمامها دون أن يكلف نفسه عناء النظر إلى عينيها.
الريح كانت تزداد برودة، وكانت ليلى تشعر أن قدميها لم تعودا قادرتين على حملها. جلست بجوار أحد الجدران، احتضنت طفلها وراقبت المارة بعيون فارغة. طفل صغير يدعى علي، لم يتجاوز الثامنة من عمره، اقترب منها وهو يمسك تفاحة صغيرة، مدها نحوها بيد مرتجفة، لكنها لم تستطع مد يدها لأخذها. فجأة، خرجت أمه من أحد المنازل، صفعته على يده وسحبت التفاحة منه وهي تصرخ: "لا تقترب منها! لا تلمسها! هؤلاء المتسولون ليسوا إلا عالة، اتركها تموت، فهذا جزاء الكسل." ثم سحبت طفلها بعنف وأغلقت الباب خلفها.
ليلى لم تعد تشعر بشيء. فقط البرد، ثم لا شيء. احتضنت طفلها أكثر فأكثر، كأنها تحاول أن تزرع جسدها في جسده حتى لا يقتلعها الموت منه. همست له بصوت متحشرج: "لا تبكِ يا صغيري... أنا هنا... لن أتركك..." لكنه بكى، وبكى، وبكى، حتى نام من الإرهاق. أما ليلى، فقد أغلقت عينيها ببطء، وشعرت أن الجوع والبرد أصبحا مجرد ذكرى بعيدة، قبل أن يغيب كل شيء إلى الأبد.
مرت الليالي، ولم يتوقف بكاء الرضيع. سبع ليالٍ والناس يمرون بجوارها ولا يلتفتون. سبع ليالٍ وهو يبكي فوق صدرها الذي كان يومًا تطعمه الحياة. في الليلة السابعة، مرّ رجل غريب، توقف أمام الجسد الهزيل، اقترب أكثر، وعندما لمسها أدرك الحقيقة. انتزع الرضيع من فوق صدرها، لكنه كان قد فقد صوته، ينظر بعينين فارغتين، كأن الحياة نزفت منه كما نزفت من أمه.
اجتمع الناس بعد أن انتشر الخبر، وقفوا حول جثتها وهم يتهامسون. البعض قال إنها ماتت لأنها لم تكن قوية بما يكفي، وآخرون قالوا إنها لم تعرف كيف تعيش، بينما بعضهم اكتفوا بالصمت. لكن الحقيقة الوحيدة التي لم يجرؤ أحد على قولها هي أنهم جميعًا قتلوها. لم يكن الجوع هو ما أودى بحياتها، بل قسوتهم، أنانيتهم، وقلوبهم التي لم تعرف الرحمة.
بعد أيام، مات الرضيع في أحضان الغريب الذي أنقذه، مات جائعًا كما ماتت أمه، وكأن الحياة أبت أن تتركه يعيش بعد أن فقد الحضن الوحيد الذي كان يمنحه الدفء. عند دفنه، لم يحضر أحد، لم يترحم عليه أحد، لم يسأل عنه أحد. وكأن القرية بأكملها قررت أن تمحو آثار الجريمة، أن تنسى صوت البكاء الذي ظل سبع ليالٍ يصرخ في وجوههم بلا جدوى.
حين حلّ الربيع، نبتت زهرة صغيرة في المكان الذي ماتت فيه ليلى. مرت عجوز بجوارها وقالت بهمس: "إنها روحها، عادت لترى إن كان البشر قد تعلموا شيئًا من موتها." لكن لا أحد تعلم، ولا أحد سيتعلم. سيظل الجوع قاتلًا، وستظل القلوب قاسية، وسيموت آخرون، دون أن يتغير شيء.
انتظروا المزيد من القصص والروايات ................................................................. بقلم يوسف الكاتب .